في أحد المؤتمرات الصحفية سُئل آرني سلوت، مدرب ليفربول الحالي، عن السبب وراء المستويات الجيدة التي أضحى يقدمها لاعب وسط الميدان كيرتس جونز مع النادي الإنجليزي، والتي صارت السبب في ضمانه مركزاً أساسياً في تشكيلة الريدز.
أجاب سلوت مازحاً أنه ليس مسئولاً بأي شكلٍ عن تلك المستويات، وإنما يجدر النظر إلى التغير الكبير الذي طرأ على حياته الشخصية، لقد صار أباً مؤخراً.
بعد أقل من أسبوع من ولادة ابنته الأولى دلايلا استحق جونز جائزة رجل المباراة في مباراة ليفربول وتشيلسي، التي تسبب في هدفها الأول بحصوله على ركلة جزاء، وسجل هدف الانتصار وضمان النقاط الثلاث. ثم ما لبث الإنجليزي أن استُدعي للمنتخب الوطني للمرة الأولى، حيث شارك أساسياً في أول مباراة له، وأحرز هدفاً أيضاً.
يرى سلوت المستويات التي يقدمها جونز ويتساءل إن كان للأبوة دور حقيقي فيها أم لا؟ وهذا ما نحاول معرفته نحن أيضاً: هل تؤثر الأبوة على أداء اللاعبين أم أن الأمر محض صدفة؟
يبدو الأمر أكثر منطقية حين الحديث عن الأمومة وتأثيراتها الجسدية والنفسية على الأم، فهي التي تحمل وتضع، وهي التي تعاين تلك التغيرات الجسدية والنفسية يوماً بعد يوم لالتصاقها الحتمي بمولودها، ولكن ما انعكاسات الأبوة على الآباء إن كانوا لا يحملون ولا يضعون ولا يرضعون؟
تشير الإحصاءات إلى أن الأوقات التي يقضيها الآباء في رعاية أطفالهم قد زادت ثلاثة أضعاف عما كانت عليه في الخمسين سنة الأخيرة، وجدير بالذكر أن تلك الإحصائية قد أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يتاح للآباء ولا للأمهات الحصول على إجازة مدفوعة لرعاية الطفل، أما في كثير من الدول الأوروبية التي تتيح للآباء تحديداً إجازات مدفوعة لرعاية الأطفال مثل ألمانيا وإسبانيا والسويد؛ يكون وقت الرعاية أطول بكثير.
تلك الزيادة النوعية في علاقة الآباء بأطفالهم في المراحل السنية المبكرة، دفعت عالمين في معهد كارلوس الثالث الصحي بالعاصمة الإسبانية مدريد، لدراسة التغيرات التي تطرأ على أمخاخ الآباء عند وصول مولودهم الأول.
توصل الباحثان إلى أن عقول أولئك الآباء تصبح أكثر مرونة، بحيث يسهل تغيير المسارات والهياكل العصبية، مما يعني القدرة السريعة على التكيف مع المواقف الطارئة والاستفادة السريعة من التجارب الجديدة والتماهي معها، مقارنة بأولئك الذين لم يسبق لهم أن صاروا آباءً. وهو ما يمكن إسقاطه على جونز الذي استطاع في مدة وجيزة نسبياً أن يتكيف مع مهام المدرب الجديد الذي يعد أسلوبه أقل حدة وأكثر روية من أسلوب سلفه يورغن كلوب.
ولا يقف الأمر عند التغيرات الوظيفية على المخ فحسب، بل تعطي الأبوة حافزاً يمكن رؤية تأثيره على الآباء من الرياضيين المحترفين. وهذا بالضبط ما توصلت إليه دراسة لمجموعة من الباحثين في جامعة أوتاوا الكندية، بعنوان: «الأبوة والنخبة الرياضية: التضحية والأنانية واكتساب قوة الأب».
ركزت الدراسة على تجارب الرياضيين الذين تحولوا مؤخراً إلى آباء، ووجدت أن المسئوليات الجديدة التي ألقيت على عواتقهم والروابط العاطفية التي تكونت مع أطفالهم حديثي الولادة، لعبت دوراً كبيراً في تحسين مستوياتهم.
فهل ينتهي الأمر عند هذا الحد؟ ماذا عن نمط الحياة والمسئوليات الجديدة الملقاة على عواتقهم؟
«كمتزلجٍ محترف، دائماً ما يتعلق الأمر بمدى السرعة التي يمكنك النزول بها من الجبل، والفوز بالسباق في النهاية. لكن منذ أصبحت أباً وأنا أحاول الإبطاء قليلاً، وتقدير كل ثانية يمكن أن أقضيها مع أطفالي. إنهم يكبرون سريعاً وأريد التأكد من أن أكون جزءاً من كل لحظات حياتهم المهمة.»
- بود ميلر، الحائز على الميدالية الأولمبية في التزلج 6 مرات
لا تخص تلك المخاوف ميلر وحده، ولكنه شعور عام يدركه الآباء عند لحظة معينة. ليس أن إقبالهم على الحياة وحبهم لها قد زاد فجأة، وإنما تمسكهم بتلك الحياة والحرص على سلامتهم فيها؛ لأن ذلك يعني بالتبعية حضوراً دائماً في حيوات أطفالهم.
لذلك يحضر الخوف كجزء أصيل في معادلة الحياة وكحافز ضروري تجاه غريزة البقاء، خصوصاً في الرياضات التي يمكن أن تعرض أصحابها لإصابات خطرة أو تحضر الخطورة كجزء أصيل من طبيعتها مثل الرياضات العنيفة أو رياضات التزلج على الجبال.
يترك ذلك الخوف أثره على الأداء بشكل عام، ونراه بوضوح أكبر في دراسة أجريت على 299 من راكبي الدراجات المحترفين، حيث تم مقارنة أدائهم في الفترة التي سبقت أبوتهم بأدائهم في فترة مماثلة بعدها. ويتبين بعد تحييد العوامل الأخرى، أن أداءهم تأثر سلباً بعدما صاروا آباءً. فما السبب؟
تشير الدراسات إلى أن الآباء عند ولادة أطفالهم بل في فترة الانتظار التي تسبقها، يعانون من نقص هرمون الذكورة «التستوستيرون». وعلى قدر ما يمنح ذلك الطفل الجديد من رعاية وعطف واهتمام زائد، فإنه ينعكس على الأسرة نفسها انعكاساً سلبياً بسبب تأثيراته على العلاقة الحميمية بين الأبوين، وارتفاع مستويات التوتر والاكتئاب وقلة النوم.
عند وضع بعض الرياضات ككرة القدم في سياقها الذكوري الذي يحتفي بالقوة والخشونة، نجد أن الانخفاض البسيط في مستويات التستوستيرون في الدم يمكن أن يمتد أثرها لأبعد من مجرد قلة النوم والتوتر، وإنما ثقة اللاعب في قدراته وسهولة التلاعب النفسي به، وهو شرَكٌ لا فكاك منه.
تفرض طبيعة كرة القدم على كثير من لاعبيها ظروفاً خاصة، لا تتيح لهم التواجد بجانب عائلاتهم عند حدوث أمر طارئ، كأن يقرر الجنين أنه قد ضاق ذرعاً بظلمة الرحم وحان وقت خروجه للعالم في منتصف الليل.
قد يتصادف ذلك مع مباراة مهمة في جدول مزدحم في الصباح، أو مع بطولة دولية في قارة أخرى تبعد آلاف الأميال. وقتها يكون اللاعب بين خيارين: إما أن يترك فريقه أو أن يفوته لحظة ميلاد طفله، وكلاهما في حاجة إليه.
تعرض سام سموديكس المهاجم الإيرلندي السابق لنادي بلاكبيرن لموقف مشابه، حين وضعت زوجته طفلهما الثاني في الثانية صباحاً، قبل ساعات من مباراة فريقه أمام نورويتش في الثانية ظهراً. لم يحصل سام على قسط من الراحة، وبدلاً من ذلك حصل على أربعة أكواب من القهوة حتى يتمكن من الوصول إلى الملعب في الوقت المناسب ليبدأ أساسياً في تلك المباراة.
يبدو الأمر أبسط من ذلك بكثير، أين المشكلة في الغياب عن مباراة أو مباراتين؟ ألا يحق للاعب الحصول على إجازة رعاية طفل ويعود بعدها للفريق والمنافسة وكل تلك الأشياء؟
يصنف بين جيبسون، المدافع السابق لنوريتش سيتي، هذا الأمر كواحدة من تابوهات كرة القدم، في سلسلة «الأبوة في كرة القدم» التي تقدمها شبكة سكاي سبورتس. ليس لأن الأندية تعارضه أو أن القانون لا يُقرُّه، بالعكس يمكنك أن تذهب كيفما شئت، والعائلة قبل كل شيء. لكن المشكلة في العودة.
يبذل اللاعبون جهوداً جبارة للحفاظ على أماكنهم في التشكيل الأساسي في عالم كرة القدم، الذي صارت المنافسة فيه على أشدها على جميع المستويات. فماذا لو أن المكان الأساسي الذي شغله اللاعب بعد أسابيع وشهور طويلة من العمل الجاد والجهد المتواصل، قد شُغل بلاعب آخر استغل فرصة الغياب وأظهر جدارته وحصل بالفعل على ثقة المدرب؟ ماذا لو سارت أمور الفريق على أحسن حال بدونه؟ وقتها سيضطر اللاعب إلى إعادة إحياء تلك المجهودات مرة أخرى وهو ما يستغرق وقتاً بالطبع.
ورغم هذا فإن الفريق قد يستفيد من بديل يبحث عن فرصة، لكن ماذا لو أن الذي سيتحتم غيابه هو المدرب شخصياً؟
في فبراير عام 2022 كانت زوجة المدرب الإسباني كارلوس كاربران، مدرب نادي ويست بروميتش ألبيون، في المستشفى تضع مولودهما الأول. لم يستطع كارلوس أن يتركها في ذلك الموقف، لكنه لم يستطع أيضاً أن يتخلى عن فريقه الذي كان يلعب في الوقت نفسه مباراة في كأس الاتحاد الإنجليزي. جلس كارلوس محاطاً بالتلفاز والأجهزة وعلى تواصل دائم مع مساعديه على الخط ليدير فريقه عن بعدٍ ويشهد ميلاد طفله الأول.
قد يبدو الخيار صعباً بين الأمرين، لكن سام وكارلوس وكثيرين غيرهم يؤمنون أن تلك الأفكار جميعها لا تصبح مصدر قلق على الإطلاق حين يتعلق الأمر بولادة طفلك.